مولده وحياته: وُلد الشاعر الشهيد سيِّد بن جامع بن هاشم الرفاعي في بلدة أنشاص بمحافظة الشرقيَّة بمصر عام 1935م.
واشتهر باسم جدِّه هاشم، نشأ في بيئة إسلاميَّة، وتربَّى على قيم الخير والفضيلة، حَفِظَ القرآن في سنٍّ مبكِّرة، تلقَّى مبادئ اللغة والدين في بلده، وحَفِظَ كثيرًا من القصائد.
التحق بمعهد الزقازيق الديني سنة (1366هـ 1947م)، وأكمل دراسته الثانويَّة فيه سنة (1375هـ 1956م).
توجَّه إلى القاهرة وانتسب إلى كلِّيَّة دار العلوم بجامعة القاهرة سنة (1374هـ 1955م)، نَظَم الشعر في سنٍّ مبكِّرة.
وانطلق في مطلع شبابه ينظم القصائد الملتهبة ضدَّ الظلم والطغيان، وامتاز شعره بالصدق وروعة التصوير والشفافيَّة.
حياته الشعرية:
يمكننا أن ندرك انقسام حياة هاشم الرفاعي الشعريَّة القصيرة إلى مرحلتين أساسيَّتَين:
الأولى: مرحلة وجوده في معهد الزقازيق الديني.
والثانية: مرحلة طلب العلم في كلية دار العلوم.
وإنْ لم يكن هناك فرق كبير واضح بين المرحلتين، فإنَّ هذا التقسيم التاريخي يمكن أن يفيد في فَهْمِ منطلقات الشاعر.
والأُسس الفكريَّة التي بنى عليها قصائده، التي لم تتمايز فنِّيًّا على مستوى المرحلتين، مع الأخذ في الاعتبار أن نهاية المرحلة الأولى تزامنت تقريبًا مع قيام ثورة يوليو.
المرحلة الأولى:
ويتَّضح فيها فنِّيًّا الاهتمام الشديد بغرابة اللغة غير المستخدمة، في نوعٍ من محاولة التأكيد على سيطرته على هذه اللغة.
وكذلك في ناتج واضح للتأثُّر بالقراءات التراثيَّة المتعدِّدة، وهو ما أدَّى إلى أن تكون اللغة في حدِّ ذاتها هدفًا من الكتابة في بعض الأحيان، خاصَّة إذا لاحظنا محاولات الشاعر الدائمة للبحث عن هويَّة تراثيَّة، الأمر الذي تمثَّل في اعتماده على الأغراض التقليديَّة للشعر العربي.
إن غرابة اللفظ نعني بها هنا استخدامه لألفاظ شاعت في الجاهلية وشعرها، وقلَّ استخدامها بل اندثر أحيانًا، يقول:
إذا ما جنَّ ليلكمُ اجتمعتمْ *** وقد بسط الهناء لكم سبيلهْ
إلى أنْ تَقْطَعُوا في اللهو شطرًا *** من الليل الذي أرخى سدولهْ[1]
وهنا نلاحظ أنَّ الشاعر لم يستخدم فقط اللفظ الجاهلي "سدوله" بل إنه تجاوز في ذلك استخدام المعنى الذي ابتدعه امرؤ القيس كاملًا حين قال:
وليلٍ كموج البحر أرخى سُدُولَه *** عليَّ بأنواع الهموم لِيَبتلي[2]
ونلاحظ أن هذه السمة تتواتر في القصائد المكتوبة قبل عام 1953م، ففي هذه الفترة لم يكن هاشم الرفاعي قد أتمَّ السابعة عشرة من عمره، كما تتواتر في القصائد التي كتبها، في مناسبات دينية، فيقول في ذكرى المولد النبوي عام 1952م:
أولئك قوم عظَّم الله أجرهمْ *** فما وجدوا أشهى من الأجر مطلبَا
تَزَلْزَلَ مُلْكُ الروم تحت سيوفهمْ *** وخرَّت بلاد الفرس من وطأة الشَّبَا[3]
ويقول في القصيدة ذاتها:
فَقَوَّضَ عرشَ البغي في مصر وانثنى *** يريد بنا من حِنْدِس[4] الذُّلِّ مهربَا
إنَّ تَكرار هذه الظاهرة في كثير من قصائد هذه الفترة في حياة هاشم الرفاعي يجعل منها سمة، تشير بشيء غير قليل إلى تأثُّر شاعرنا بالمناخ الصوفي الذي تربَّى فيه، وبقراءاته التراثيَّة.
ويمكن أن نُضيف إليها نزعته الحماسيَّة المتأثِّرة بحداثة السنِّ، إضافة إلى رؤيته لكلِّ الأمور السياسيَّة والاجتماعيَّة على أساس ديني وأخلاقي؛ ولعلَّ هذا ما يميِّز رؤية وإبداع هاشم الرفاعي عمومًا.
المرحلة الثاني:
في المرحلة الثانية اتجه هاشم الرفاعي إلى كلية دار العلوم ودرس الأدب العربي والنقد على يَدِ صفوة ممَّن أسَّسوا لهذه العلوم في مصر؛ ومنهم: د. محمد غنيمي هلال، ود. أحمد الحوفي، ود. علي الجندي، ود. كمال بشر.
كما ينصُّ في مذكِّراته، كما أنَّ هذه الفترة قد توازت مع النواتج القوميَّة لثورة يوليو وارتفاع النبرة الواقعيَّة في الأدب، وهنا تخلَّى شاعرنا عن كثير من إغراقه في الأشكال التراثيَّة، ليتَّجه إلى أشكال جديدة معبِّرة عن واقعه حسبما يراه، وكان ذلك على ثلاثة محاور:
- فمن حيث الألفاظ اتجه إلى الألفاظ السهلة والشائعة بين العامَّة، بما يعني إضفاء رُوح شعريَّة جماليَّة، مع عدم إهدار صحَّة اللغة واستقامتها كشرط أساسي للإبداع الشعري.
- ومن حيث الأوزان بدأ الشاعر في الاتجاه إلى التخلِّي عن الأشكال الخليليَّة للعروض القديم، محاولًا استخدام أنماط متباينة موسيقيًّا في القصيدة الواحدة، لكن مع عدم نفي العروض الخليليَّة تمامًا.
وهو ما أدَّى إلى ظهور الرباعيَّات، والثنائيَّات، والقصائد التي تقترب موسيقيًّا من شكل الموشح الأندلسي.
- ومن حيث الموضوعات فإن الشاعر قد بدأ جزئيًّا في التخلي عن الأغراض القديمة في محاولة منه للاقتراب من نبض الشارع، وبدا مسايرًا للقضايا السياسيَّة في العالم العربي كله، وهو ما جعله يُفْرِدُ العديد من قصائده لثورة الجزائر والسودان.
ونضال الشام عمومًا، بخلاف مسايرته للأحداث السياسيَّة المهمَّة في مصر مثل تأميم قناة السويس والجلاء.
ومن الواضح أنه لا يمكن الفصل تمامًا بين المرحلتين، نظرًا لقصر الفترة الزمنيَّة التي عاشها الشاعر؛ ولأنَّ سمات المرحلتين تتداخل دائمًا، وإنما كان التميُّز بينهما على أساس شيوع سمة ما في إحدى المرحلتين أكثر من الأخرى.
وعلى امتداد المرحلتين تُعَدُّ أهمَّ الروافد التي أثْرَتْ شاعرنا وأثَّرت فيه ملخصَّة في اتجاه أسرته الديني، وقرَّبه من مواقع الأحداث ومراكزها.
يضاف إلى ذلك افتتانه منذ صغره بالريف المصري ذي الطبيعة الفطريَّة الأصيلة التي تجعل المتأمِّل بها قريبًا من لمس جوهر الأشياء بخفَّة ظلٍّ لا يتمتَّع بها إلاَّ الفلاَّح المصري الساخر الأسيانُ في آن واحد.
ويمكن أن نضيف إلى ذلك حبَّه لجلسات شاعر الربابة، الذي ظهر في حِفْظِهِ للسيرة الهلاليَّة وسيرة "عنترة بن شدَّاد".
وهو لم يزل بعدُ ابن عشر سنوات، وأهمُّ هذه الروافد هو إتمامه لحفظ القرآن الكريم في سنِّ ثماني سنوات، وهو ما أهَّله ليكون ذا لغة سليمة، مستقيمة، وإحساس مرهف بجماليَّات اللغة.
ولعلَّ قصر حياة الشاعر -حيث تُوُفِّيَ في الرابعة والعشرين من عمره- هو ما جعل الأسى يشتدُّ حين مقتله، فيَصِفُهُ شيوخ الأدب والشعر في عصره بصفات لا تستقيم إلاَّ لشاعر حقيقي.
ويبقى وسامه الأكبر هو شاعريَّته التي استطاعت بشفافيَّتها أنْ تنفذ إلى المستقبل حين عالجت الواقع.
فأشهر قصائد هاشم الرفاعي هي ملحمة "رسالة في ليلة التنفيذ"، التي يتحدَّث فيها على لسان مناضل عربي ضدّ الاستعمار يُحْكَمُ عليه بالإعدام لنضاله، وهي كذلك في مجمل معانيها تَصِفُ ما يمكن أن يقوله الشاعر عن نفسه بعد استشهاده[5].
شعره:
في المرحلة المبكِّرة من عمر الشاعر نراه قد نَظَم مجموعة من القصائد قبل نهاية عام 1949م، أسماها "البراعم" ولم يكن قد تجاوز الرابعة عشرة من عمره، فتدلُّ هذه القصائد على شاعريَّته المبكِّرة، وفي عام 1948م كتب ستَّ قصائد هي: فلسطين، صور ساخرة، خيانة، صداقة، نهج البردة، أحزان، وفي عام 1950م.
نرى الشاعر ينظم ثلاثَ عشْرَةَ قصيدة، وقد بدأ النضوج الشعري عنده، وبدأت الرؤية الشعريَّة لديه تتَّضح، وبدأ قصائد عام 1950م بقصيدة تحمل عنوان "عزاء"، وفي عام 1951م نَظَم الشاعر عشرة قصائد، بدأها بقصيدة "الدستور الخالد" -القرآن الكريم- نُشرت في مجلة العالم الإسلامي الثقافيَّة.
وبداية من عام 1952م يبدأ الشاعر في إنتاجه الغزير، حيث تنوَّع شعره ما بين الأشعار الوطنيَّة وأشعار الطبيعة والربيع، ثم الذكريات الدينيَّة، وفي هذه الفترة كان هاشم الرفاعي يقضي أعوامه الدراسيَّة في معهد الزقازيق.
وفي عام 1954م ثارت عواطف هاشم الرفاعي حينما رأى تدخُّل الحاكم في شئون الأزهر بحجة تطويره، فعقد هاشم الرفاعي وزملاؤه مؤتمرًا للطلاَّب بمعهد الزقازيق الديني الأزهري، قرَّر المؤتمرون فيه الإضراب عن الدراسة، حتى يُستجاب لمطالبهم بِعَدَمِ اختصار العلوم الشرعيَّة واللُّغويَّة.
وقد قُبض عليه، وفُصل من الدراسة في المعهد مدَّة عام كامل، وبعد هذا التاريخ لم يذكر هاشم الرفاعي ثورة يوليو بشيء في شعره، ثم التحق بكلِّيَّة دار العلوم في عام 1956م، وفيها ظهر نبوغه الشعري، واختير الطالب المثالي لجامعة القاهرة.
فانتُدب أكثر من مرَّة من قِبَلِ الوزير كمال الدين حسين[6] لإلقاء الشعر بمناسبة الوَحدة بين مصر وسوريا في أعوام 1958م، و1959م.
ولم يَقُلْ هاشم الرفاعي إلاَّ ثلاث قصائد عن الثورة والجلاء في الفترة ما بين عامي 1954م إلى وفاته عام 1959م بطلبٍ من وزير التعليم كمال الدين حسين.
تنوَّع إنتاج هاشم الرفاعي الشعري، ما بين شعر وطني ينادي بالثورة على كل ما يقضُّ أمن مصر، بداية من إخراج الإنجليز ثم الكلام عن سلبيات الثورة، وشعر آخر يتحدَّث عن جمال الطبيعة وأيام الصبا في بلدته أنشاص الرمل، وغيرها من الميادين الشعريَّة الأخرى.
ورغم أغراضه الشعريَّة المتفرِّعة، فإننا نجد شعر هاشم الرفاعي في مجمله مصبوغًا بالدعوة إلى الإسلام والجهاد والصحوة الإسلاميَّة وتذكير الشباب بتاريخ الإسلام والعرب، فأشعاره الوطنيَّة لا تخلو من ذلك، وكذلك أشعاره التي يدعو فيها إلى الوَحدة العربيَّة وإحياء اللُّغة العربيَّة، وأشعار المناسبات الدينيَّة.
وغير الدينيَّة كلها لا تكاد تخلو من الدعوة إلى إحياء الإسلام وتعاليمه في وجدان الشباب، والدعوة إلى الوَحدة الإسلاميَّة، واتخاذ الكتاب والسنة مصدرين أساسيَّين للتشريع، وهذا ما حَدَا الكثيرَ من كتَّاب الدعوة الإسلاميَّة إلى أن يضعوا هاشمًا في قمَّة الشعراء الداعين للعروبة والإسلام[7].
أثر البيئة في شعره:
تأثَّر هاشم الرفاعي بكلِّ ما أحاط به، فشرع يكتب فيه؛ تأثَّر بالبيئة الريفية التي عاش بين ظاهرنيها، فكتب وصافًا إيَّاها، معبِّرًا عمَّا يمور في قلبه تجاهها، ولا ريب أن الشاعر الذي يتأثَّر بالطبيعة، فتغدو جداول مائها وتغريد طيرها، وانبساق أغصانها، ونور شمسها.
وتلك المساحات الشاسعة الخضراء من أرضها، تغدو جزءًا لا يتجزَّأ من نفسه ووجدانه، وهاشم من هؤلاء الذين تأثَّروا بهذه البيئة المصريَّة النقيَّة، فكتب "في ظلال الريف" عام 1953م قائلًا:
أيام ألهو في الحقو *** ل فراشة أخذت تطيرْ
وأجرُّ في أرباضها *** ذيلَ الطفولة في سرورْ
ذاك الزمان مضى بهِ *** كرُّ الليالي والشهورْ
لا الطفل طفل في الحقو *** ل ولا الصغير بها صغيرْ[8]
شعره الإسلامي:
امتد إنتاج هاشم الرفاعي الشعري إلى مجال السيرة النبويَّة حتى نبغ، فكتب تسع قصائد في أعوام مختلفة؛ تبدأ بعام 1948م وهو ابن الثالثة عشر عامًا بقصيدة "نهج البردة "حتى عام 1954م.
وكلها قصائد مليئة بالصورة التعبيريَّة الصادقة والمادحة لرسول الله، تُبَيِّن في لوحات شعريَّة فيَّاضة سهلة التلقِّي ما حدث في حياة رسول اللهمن ميلاد، وبعثة، وهجرة، وإقامة الدولة، ثم وفاته، وفي قصيدته "الذكرى العاطرة" يُبَيِّن هاشم ذلك بقوله:
أمَّا الضعيفُ فمغبونٌ وليس لهُ *** في الأرضِ عونٌ يقيهِ شرَّ باغيها
والكلُّ يشربُ كأسَ الإثمِ في طربٍ *** وينثني حين يأتي مُنكرًا تيهَا
كانتْ مآثمُهمْ في عُرفهم مَرَحًا *** والقتلُ في شرعهمْ قد كان ترفيهَا
هذي مبادئهم أيامَ دَوْلَتِهمْ *** الزورُ ينشُرُها والإِثمُ يُمليهَا
حتى أضاءتْ بمولودٍ لآمنةٍ *** أرجاءُ مكَّة وانجابتْ دَياجيها
ومَنْ تتبَّع تاريخَ الهداةِ رأى *** فيهِ الجلالة في أسمى معانيها
ففي الطفولة يَلقى ما يمجِّدُها *** وفي الرجولةِ يلقى ما يُزكِّيها[9]
وأمَّا قصائد القضيَّة الإسلاميَّة فلها مكان لا ينفصم من قلب وبنان الشاعر، فالاستعمار المحيط بالوطن الإسلامي الكبير.
كان له أكبر الأثر في إنتاج هاشم الإسلامي، فكتب ما يقرب من عشرين قصيدة كلها تحت راية الإسلام، فالأحداث التي قد يُعْتَقَدُ أنها قوميَّة تخصُّ قطرًا عربيًّا بعينه، أو قومًا قد اجتمعوا بمكان جغرافي.
هذه الأحداث يعدُّها هاشم الرفاعي من صميم القضيَّة الإسلاميَّة، فكتب عن محنة اليمن، التي حدثت له بعد مقتل الإمام اليمني عام 1948م، وكتب عن أحداث العراق في عام 1954م، ثم كتب إلى الشرق والغرب الإسلامي؛ يستحثُّه للنهوض من هذه الكبوة التي طالت في سبتمبر من عام 1954م قائلًا:
أيقظ الشرق وهزَّ العربَا *** فبريقُ المجد في الشرق خَبَا
علَّ مَنْ عاشوا على الماضي الذي *** بذَّ في نَيْلِ الفخار المَغْربَا
يَسْتَعِيدون سَنَا مُلكٍ لهمْ *** قَدْ تَوَانَوْا عنهُ حتَّى ذَهَبَا
قفْ على بغدادَ واندبْ مَنْ بها *** رَفَعُوا للشَّرق ذِكْرًا طيِّبَا
وابْكِ في الأيَّامِ مَنْ قال وَقَدْ *** أَبْصَرَ الغيمَ تهادى صَيِّبَا
سِرْ يمينًا أو يسارًا إنَّ لي *** خَرْجَ هذا الماءِ أنَّى سَكَبَا[10]
ودمشقُ الأمس سلْهَا عن فتًى *** رَكِبَ الأمواجَ فيما رَكِبَا
أمويٌّ من بنيها باسلٌ *** ذاك مَنْ شقَّ العُبَابَ اللَّجبَا
ومضى للشاطئ الغربيِّ ما *** قدَّرَ المقْدَام أنْ ينقلبَا[11]
رسالة في ليلة التنفيذ:
أما أشهر قصائده على الإطلاق فتلك القصيدة التي تحدَّث فيها عن شهيد ينتظر إعدامه، يمرُّ فيها بمراحل انفعاليَّة مختلفة تصلُ ذروتها حينما يردِّد اسم أبيه في كل بيت من أبيات هذه القصيدة الرائعة "رسالة في ليلة التنفيذ".
وعلى الرغم من أن هذه القصيدة قد ألهمت الجماهير العريضة رُوح الحماسة ضدَّ أي طغيان، فإنها كانت نابعة من نفس تُؤمن بالله إيمانًا عميقًا، وتُصَوِّر للمتلقِّي هذه المعاني الربَّانيَّة الغالية، التي تربَّى عليها هاشم، والتي ظهرت جليَّة في شعره.
فأصبحت "رسالة في ليلة التنفيذ" ملءَ السمع والبصر في كل مكان غابت فيه الحرِّيَّة، فخرجت هذه القصيدة نابعة صادقة يُرَدِّدها كلُّ صادق، وها نحن نردِّدها اليوم، يقول هاشم الرفاعي:
أبَتَاهُ مــاذا قد يخطُّ بناني *** والحبلُ والجلاَّد منتظرانِ
هذا الكتاب إليكَ من زنزانةٍ *** مقرورة صخريَّة الجدرانِ[12]
ولعلَّ من أبرز القصائد الإسلاميَّة في شعر هاشم الرفاعي قصيدة "شباب الإسلام" التي ذكَّر فيها بأمجاد الإسلام، وتاريخه العريق.
وناقش فيها قضيَّة انحراف الشباب، ونبَّه من خلال هذه الأبيات إلى ضرورة النظر إلى المعايير الصحيحة للأخلاق والقيم والمُثُل، والتي يجب أنْ تُستقى من الكتاب والسُّنَّة النبويَّة الصحيحة، فقال:
مَلَكْنَا هذه الدنيا قرونَا *** وأخضعها جدودٌ خالدونَا
وَسَطَّرْنَا صحائفَ من ضياءٍ *** فما نَسِيَ الزمانُ ولا نَسِينَا
حملْنَاها سيوفًا لامعاتٍ *** غداةَ الرَّوْع[13] تأبى أنْ تَلِينَا
إذا خَرَجَتْ من الأغماد يومًا *** رأيتَ الهول والفتحَ المبينَا
وكنا حين يأخذُنَا وَلِيٌّ *** بطغيانٍ ندوسُ لهُ الجبينَا
تفيضُ قلوبنا بالهديِ بأسًا *** فما نُغضي عَنِ الظُّلْمِ الجفونَا[14]
ومن أعظم القصائد الإسلاميَّة التي نَظَمها هاشم الرفاعي وقالها قبل مقتله بأربعة أشهر فقط - في مارس من عام 1959م- قصيدة "أغنية أُمٍّ"، حيث تكلَّم عن محنة الإسلاميين في مصر، وفي العراق، ومحنة المسلمين في كل مكان، فتكلَّم في هذه القصيدة، عن مشاعر هذه الأُمِّ تجاه وليدها الذي أُعدم أبوه.
فيتَّبع أسلوب التورية خوفًا من بطش الطغاة، ويتظاهر أنه يتحدث عن محنة العراق سنة 1959م، فيقول[15]:
نمْ يا صغيري، إنَّ هذا المهدَ يحرسه الرجاءْ
مِنْ مُقلة سهِرَتْ لآلام تثورُ معَ المساءْ
فأصوغها لحنًا مقاطعه تأجَّجُ في الدماءْ
أَشْدُوا بأغنيتي الحزينة ثمَّ يغلبني البكاءْ
وأمدُّ كفِّي للسماءِ لأستحثَّ خُطا السماءْ
نَمْ لا تشاركني المرارة والمحنْ
فلسوف أرضعكَ الجراحَ مع اللبن
حتى أنالَ على يديكَ مُنًى[16] وهبتُ لها الحياة[17]
قصائده الوطنية:
أمَّا صيحاته الوطنية فجليَّة كثيرة، بلغت هذه القصائد الوطنيَّة ما يقرب من ثمانية وعشرين قصيدة، منها قصيدة توزيع المِلْكِيَّة الزراعيَّة على صغار الفلاحين في مارس من عام 1954م، والتي يُصَوِّر فيها انقضاء عهد الإقطاعيَّة وبروز عهد جديد يستفيد فيه هؤلاء الفقراء.
الذين طالما عانَوْا من جشع المُلاَّك، حتى أضحى ذلك الفلاَّح الصغير الأجير عندهم -في كثير من الأوقات- كأنه عبد من عبيدهم، فيُصَوِّر هاشم الرفاعي الفرحة العارمة التي استقبلها هؤلاء الفلاَّحون في هذه الأبيات الرائعة بقوله:
أملٌ تحقَّق في البلاد عسيرُ *** قد كان في خَلَد الفقير يدورُ
لما أُعِيدَ إلى الكنانةِ مجدها *** وانجاب عنها الليل والديجورُ[18]
وأطلَّ عهدٌ مشرق الجنبات قد *** سطعَ السنى بقدومِهِ والنورُ
غمرَ البلادَ بهاطلٍ من يُمْنِهِ *** وتدفَّقت للخيرِ فيه بُحُورُ
سجدتْ بلادُ النيلِ شاكرةً لهُ *** نِعَمَ الإلهِ.. وإِنها لكثيرُ[19]
وفي أكتوبر من عام 1954م كتب هاشم الرفاعي قصيدة "مصر بين احتلالين"؛ حيث أبرز فيها ما جاءت به الثورة من سلبيات جمَّة، وما قاله عن الحقيقة الخفيَّة من وراء هذا الجلاء.
وما كان يفعله رجال الثورة في كثير من طبقات الناس في هذه الفترة الزمنيَّة، فقال[20]:
قالوا الجلاءَ فقلتُ حُلْمُ خيالِ *** لا تطمعوا في نيلِ الاستقلالِ
ليس الجلاءُ رحيلَ جيشٍ غاصبٍ *** إنَّ الجلاءَ تحطمُّ الأغلالِ
إنْ يتركِ الوادي الدخيلُ فإنَّنَا *** نحيا بمصر فريسةَ الإذلالِ
يا نيلُ إنَّ السَّيْلَ قد بلغ الزُّبى *** وغدتْ بلادُكَ دمية الأطفال
الشعبُ مشدودُ الإسارِ مُكَمَّمٌ *** يشكو القيودَ، وما لهُ من والِ
ولقد ظننَّا أننا في عهدهم *** سنزيحُ عنَّا مرهِقَ الأثقال
حتى تكشَّفَ للبلاد خداعُهم *** هيهات للظمآن ريُّ الآلِ[21]
وبعدُ، فإننا لن نستطيع أنْ نوفِّيَ هاشم الرفاعي حقَّه؛ فهذا الشابُّ الذي قُتل غِيلة وهو ابن الرابعة والعشرين من عمره، ترك ما يَزيد على 187 قصيدة شعريَّة قويَّة في موضوعها، جليَّة لدى المتلقِّي في تعبيراتها.
آمَنَ بأفكارٍ إسلاميَّة، فَتَرْجَمَ ذلك في شعره، وجدَّد في شعره القضايا الإسلاميَّة المهمَّة التي كانت غائبة عن المجال الأدبي في عصره.
ولعلَّه بعمره القصير قد حقَّق من المجد ما لم يحقِّقْه مَنْ بلغوا الثمانين أو التسعين -أو مَنْ زادوا على ذلك- من أعمارهم، ورغم هذا الإنتاج الفني الشعري المُحرِّك، فربما كان بيتٌ من أبياته الشعرية قاتلَـه!
وفاة هاشم الرفاعي:
في ظروف غامضة اغتيلت العبقريَّة ممثَّلة في الشاعر هاشم الرفاعي في عام 1959م مطعونًا بيد آثمة ملطَّخة بالدماء في أنشاص، عندما استُدْرِجَ إلى شجار مصطنع، وهو في قمَّة العطاء، ولمَّا يبلغ الخامسة والعشرين من عمره، اتُّهِمَتْ بمقتله جهات أمنيَّة.
أقامت له العزاء وأبَّنته لتنفي عن نفسها صفة قتل رجل كان من المتوقَّع له أن يكون أحد فرسان الكلمة في زمن التخاذل، حيث تُغْتَالُ الكلمة، ويُغتال معها الرجال المعبِّرون بصدق وأصالة عن وجدان الأُمَّة وضميرها.
وقامت تلك الجهات بطبع ديوانه ووضع صورة رئيس ذلك النظام في صدر الصفحة الأولى؛ حتى لا يقال: إنَّهم قتلوا الصدق والإخلاص في رجلٍ كان له شأن في عالم الفنِّ والإبداع.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الأبيات من الوافر.
[2] البيت من الطويل.
[3] البيت من الطويل، والشبَا جمع الشَّبَاة وهي طَرَفُ السَّيْفِ وحَدُّه. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة شبا 14 419.
[4] الحِنْدِس: الظلمة. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة حندس 6 58.
[5] الرابط: http: www.islamonline.net arabic arts 2002 03 article2.shtml، والمقال للدكتور: هيثم الحاج علي، بعنوان "ماذا خط بنان هاشم الرفاعي؟!" بتاريخ 2 3 2002م.
[6] كمال الدين حسين عبد الرحمن، وُلد في القليوبية عام 1921م، حصل على بكالوريوس العلوم العسكرية من الكلية الحربية عام 1939م، عُين مدرسًا بمدرسة المدفعية عام 1948م، كان أحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار البارزين وأصبح عضوًا بمجلس قيادة الثورة، عُين وزيرًا للشئون الاجتماعية عام 1954م، ثم وزيرًا للتربية والتعليم، ساهم في تأسيس نقابة المعلمين، واختير نقيبًا للمعلمين عام 1959م... وغيرها من المناصب، وقام بجولة بين عدد من الدول العربية في ديسمبر 1983م بمرافقة ياسر عرفات لوقف نزيف الدم الفلسطيني في طرابلس بشمال لبنان، وتوفي في 29 يونيو 1999م.
[7] عبد الرحيم الرفاعي: ديوان هاشم الرفاعي ص25.
[8] الأبيات من مجزوء الكامل.
[9] عبد الرحيم الرفاعي: ديوان هاشم الرفاعي ص130، والأبيات من البسيط.
[10] يشير إلى هارون الرشيد حيث خاطب السحابة قائلًا: "اذهبي حيث شئت فسيأتيني خراجك".
[11] يقصد عبد الرحمن الداخل الأموي الذي هرب من بطش العباسيين وفر إلى الأندلس، حيث كون دولة إسلامية عظيمة في الأندلس، والأبيات من الرمل.
[12] الديوان ص166-169، والقصيدة من بحر الكامل.
[13] الرَّوْع: الحَرب، وهو مَجاز. انظر: الزبيدي: تاج العروس، مادة روع 21 135.
[14] عبد الرحيم الرفاعي: ديوان هاشم الرفاعي ص196، والقصيدة من بحر الوافر.
[15] الديوان ص198.
[16] المُنَى: جمع المُنية، وهو ما يَتَمَنَّى الرجل. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة مني 15 292.
[17] الأبيات على وزن بحر الكامل.
[18] الدَّيْجُور: الظلمة. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة دجر 4 277.
[19] عبد الرحيم الرفاعي: ديوان هاشم الرفاعي ص229، والقصيدة من بحر الكامل.
[20] يذكر الأستاذ عبد الرحيم الرفاعي أن هذه القصيدة قالها هاشم الرفاعي في أكتوبر من عام 1954م، حيث كان يمرُّ بظروف نفسيَّة عصيبة، فقد فُصل من المعهد الأزهري بسبب اشتراكه في الإضرابات والمظاهرات التي خرجت منددة بما كانت تريده الحكومة -وطبقته بالفعل- من تطوير المناهج الدراسية في المعاهد الأزهرية؛ حيث اختصار الدرسات الشرعية واللغوية، وبسبب موقف هاشم الرفاعي هذا، فقد تم فصله من المعهد مدة عام كامل، فكان من نتاجه الشعري في هذا العام هذه القصيدة "مصر بين احتلالين".
[21] الآل: السراب. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة أول 11 32.
المصدر: موقع قصة الإسلام